سورة الأنعام - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ} الحق وآمن {فَلِنَفْسِهِ} أبصر وإياها نفع {وَمَنْ عَمِيَ} عنه وضل {فَعَلَيْهَا} فعلى نفسه عمى وإياها ضر بالعمى {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. الكاف في {وكذلك نُصَرّفُ الآيات} في موضع نصب صفة المصدر المحذوف أي نصرف الآيات تصريفاً مثل ما تلونا عليك {وَلِيَقُولُواْ} جوابه محذوف أي وليقولوا {دَرَسْتَ} نصرفها ومعنى {دَرَسْتَ} قرأت كتب أهل الكتاب. {دارست} مكي وأبو عمرو أي دارست أهل الكتاب. {دَرَسْتَ} شامي أي قدمت هذه الآية ومضت كما {قالوا أساطير الأولين} {وَلِنُبَيِّنَهُ} أي القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو الآيات لأنها في معنى القرآن. قيل: اللام الثانية حقيقة، والأولى لام العاقبة والصيرورة أي لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله {فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة، فكذلك الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين فشبه به. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه وعندنا ليس كذلك لما عرف {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحق من الباطل {اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ولا تتبع أهواءهم {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محل له من الإعراب أو حال {مِن رَبِّكَ} مؤكدة {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} في الحال إلى أن يرد الأمر بالقتال {وَلَوْ شَاءَ الله} أي إيمانهم فالمفعول محذوف {مَا أَشْرَكُواْ} بيّن أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته {وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} مراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بمسلط.
وكان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا عنه لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله بقوله:
{وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله} منصوب على جواب النهي {عَدْوَاً} ظلماً وعدواناً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به {كذلك} مثل ذلك التزيين {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} من أمم الكفار {عَمَلَهُمْ} وهو كقوله {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء}
[فاطر: 8] وهو حجة لنا في الأصلح {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ} مصيرهم {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيخبرهم بما عملوا ويجزيهم عليه {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} جهد مصدر وقع موقع الحال أي جاهدين في الإتيان بأوكد الأيمان {لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} من مقترحاتهم {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} وهو قادر عليها لا عندي فكيف آتيكم بها {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} وما يدريكم {إنَّهَا} أن الآية المقترحة {إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تعلمون ذلك، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله تعالى: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون {أَنَّهَا} بالكسر: مكي وبصري وأبو بكر على أن الكلام تم قبله أي وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم من جعل {لا} مزيدة في قراءة الفتح كقوله {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]. {لاَ تُؤْمِنُونَ} شامي وحمزة. {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} عن قبول الحق {وأبصارهم} عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها. قيل: هو عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} داخل في حكم {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} أي وما يشعركم أنهم لا يؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها {وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قيل: وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم يعمهون يتحيرون.
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة} كما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} كما قالوا فأتوا بآبائنا {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} جمعنا {كُلَّ شَيْء قُبُلاً} كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا جمع قبيل وهو الكفيل {قُبُلاً} مدني وشامي أي عياناً وكلاهما نصب على الحال {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً} وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء أعداء لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر وانتصب {شياطين الإنس والجن} على البدل من {عَدُوّا} أو على أنه من المفعول الأول و{عَدُوّا} مفعول ثانٍ {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وعن مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً.
وقال عليه السلام: «قرناء السوء شر من شياطين الجن» {زُخْرُفَ القول} ما زينوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي {غُرُوراً} خدعاً وأخذاً على غرة وهو مفعول له {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي الإيحاء يعني ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} عليك وعلى الله فإن الله يخزيهم وينصرك ويجزيهم {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار وهي معطوفة على {غُرُوراً} أي ليغروا ولتصغي إليه {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسهم {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَاهُم مُّقْتَرِفُونَ} من الآثام {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} أي قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} المعجز {مُفَصَّلاً} حال من الكتاب أي مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء. ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له بقوله {والذين ءاتيناهم الكتاب} أي عبد الله بن سلام وأصحابه {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} شامي وحفص {مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكين فيه أيها السامع، أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ولا يَرِبْكَ جحود أكثرهم وكفرهم به.


{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي ما تكلم به. {كلمات رَبّكَ} حجازي وشامي وأبو عمرو أي تم كل ما أخبر به وأمر ونهي ووعد وأوعد {صِدْقاً} في وعده ووعيده {وَعَدْلاً} في أمره ونهيه. وانتصبا على التمييز أو على الحال {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا أحد يبدل شيئاً من ذلك {وَهُوَ السميع} لإقرار من أقر {العليم} بإصرار من أصر أو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون.
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض} أي الكفار لأنهم الأكثرون {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} دينه {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون في أن الله حرم عليهم كذا وأحل لهم كذا {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي هو يعلم الكفار والمؤمنين. من رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والخبر {يَضِلُّ} وموضع الجملة نصب ب {يعلم} المقدر لا ب {أَعْلَمُ} لأن أفعل لا يعمل في الاسم الظاهر النصب ويعمل الجر. وقيل: تقديره أعلم بمن يضل بدليل ظهور الباء بعده في بالمهتدين {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بئاياته مُّؤْمِنِينَ} هو مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة أي على ذبحه دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ} {ما} استفهام في موضع رفع بالابتداء و{لَكُمْ} الخبر أي وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا {مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} بين لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مما لم يحرم بقوله {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] {فَصْلٌ} و{حَرَّمَ} كوفي غير حفص وبفتحهما مدني وحفص وبضمهما غيرهم {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة أي شدة المجاعة إلى أكله {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} {ليضلون} كوفي {بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} بالمتجاوزين من الحق إلى الباطل.
{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} علانيته وسره أو الزنا في الحوانيت والصديقة في السر أو الشرك الجلي والخفي {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ} يوم القيامة {بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يكتسبون في الدنيا {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} عند الذبح {وَأَنَّهُ} وإن أكله {لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ} ليوسوسون {إلى أَوْلِيَائِهِمْ} من المشركين {ليجادلوكم} بقولهم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تذبحون بأيديكم، والآية تحرم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو بجعل الناسي ذاكراً تقديراً {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلال ما حرمه الله {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به، ومن حق المتدين أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم.
ومن أوّل الآية بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه لقوله {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وقال: إن الواو في {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} للحال لأن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يحسن فيكون التقدير: ولا تأكلوا منه حال كونه فسقاً والفسق مجمل فبين بقوله {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} فصار التقدير ولا تأكلوا منه حال كونه مهلاً لغير الله به فيكون ما سواه حلالاً بالعمومات المحلة منها قوله {قُل لا أَجِدُ} أي كافراً فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب {مَيْتًا} مدني {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس} مستضيئاً به والمراد به اليقين {كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفته {فِي الظلمات} أي خابط فيها {لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} لا يفارقها ولا يتخلص منها وهو حال. قيل: المراد بهما حمزة وأبو جهل. والأصح أن الآية عامة لكل من هداه الله ولكل من أضله الله، فبين أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيّئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يتخلص منها {كذلك} أي كما زين للمؤمن إيمانه {زُيّنَ للكافرين} بتزيين الله تعالى كقوله {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} [النمل: 4] {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أعمالهم.
{وكذلك} أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا الناس فيها {جَعَلْنَا} صيرنا {فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي. واللام على ظاهرها عند أهل السنة وليست بلام العاقبة، وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما فيهم من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم، دليله {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] ثم سلى رسوله عليه السلام ووعد له النصرة بقوله {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} لأن مكرهم يحيق بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنه يحيق بهم {أكابر} مفعول أول والثاني {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} و{مُجْرِمِيهَا} بدل من {أكابر} أو الأول {مُجْرِمِيهَا} والثاني {أكابر} والتقدير: مجرميها أكابر.
ولما قال أبو جهل: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، نزل {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ} أي الأكابر {ءَايَةً} معجزة أو آية من القرآن بالإيمان {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله} أي نعطي من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} مكي وحفص {رسالاته}: غيرهما {حَيْثُ} مفعول به والعامل محذوف والتقدير يعلم موضع رسالته.
{سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} من أكابرها {صَغَارٌ} ذل وهو إن {عَندَ الله} في القيامة {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار {بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} في الدنيا {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} يوسعه وينور قلبه. قال عليه السلام: «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح قيل وما علامة ذلك قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» {وَمَن يُرِدِ} أي الله {أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} {ضَيقاً} مكي {حَرَجاً} {حَرِجاً} صفة ل {ضَيّقاً} مدني وأبو بكر بالغافي الضيق {حَرَجاً} غيرهما وصفاً بالمصدر {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه إذا ضاقت عليه الأرض، فطلب مصعداً في السماء أو كعازب الرأي طائر القلب في الهواء {يَصْعَدُ} مكي {يصّاعد} أبو بكر وأصله يتصاعد الباقون {إِلَيْهِ يَصّعّد} وأصله يتصعد {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس} العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا {عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} والآية حجة لنا على المعتزلة في إرادة المعاصي {وهذا صراط رَبِّكَ} أي طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقاً لمن أراد ضلاله {مُّسْتَقِيماً} عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون.
{لَهُمْ} أي لقوم يذكرون {دَارُ السلام} دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر، أو السلام التحية سميت دار السلام لقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} [يونس: 10]. {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} [الواقعة: 26] {عِندَ رَبِّهِمْ} في ضمانة {وَهُوَ وَلِيُّهُم} محبهم أو ناصرهم على أعدائهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون أو هو ولينا في الدنيا بتوفيق الأعمال وفي العقبى بتحقيق الآمال.


{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} وبالياء حفص أي واذكر يوم نحشرهم أو ويوم نحشرهم قلنا {جَمِيعًا يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أضللتم منهم كثيراً وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجنود {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس} الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في أغوائهم {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى، والتكذيب بالبعث وتحسر على حالهم {قَالَ النار مَثْوَاكُمْ} منزلكم {خالدين فِيهَا} حال والعامل معنى الاضافة كقوله تعالى: {أَنَّ دَابِرَ هؤلاءآء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] ف {مُّصْبِحِينَ} حال من هؤلاء والعامل في الحال معنى الاضافة إذ معناه الممازجة والمضامّة والمثوى ليس بعامل لأن المكان لا يعمل في شيء {إِلاَّ مَا شَاءَ الله} أي يخلّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء اللّه إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} فيما يفعل بأوليائه وأعدائه {عَلِيمٌ} بأعمالهم فيجزي كلاً على وفق عمله {وكذلك نُوَلّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} نتبع بعضهم بعضاً في النار، أو نسلط بعضهم على بعض أو نجعل بعضهم أولياء بعض {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي، ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} عن الضحاك: بعث إلى الجن رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم لأنهم بهم آنس وعليه ظاهر النص، وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة وإنما قيل {رُسُلٌ مّنكُمْ} لأنه لما جمع الثقلين في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أو رسلهم رسل نبينا كقوله {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي} يقرءون كتبي {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا} يعني يوم القيامة {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} بوجوب الحجة علينا وتبليغ الرسل إلينا {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين} بالرسل.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} تعليل أي الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم على أن {أن} مصدرية، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، والمعنى لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم بسبب ظلم أقدموا عليه أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب لكان ظالماً وهو متعال عنه {وَلِكُلٍّ} من المكلفين {درجات} منازل {مّمَّا عَمِلُواْ} من جزاء أعمالهم، وبه استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أن للجن الثواب بالطاعة لأنه ذكر عقيب ذكر الثقلين {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} بساه عنه وبالتاء شامي.
{وَرَبُّكَ الغني} عن عباده وعن عبادتهم {ذُو الرحمة} عليهم بالتكليف ليعرِّضهم للمنافع الدائمة {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها الظلمة {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} من الخلق المطيع {كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ} من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام {إِنَّ مَا} ما بمعنى الذي {تُوعَدُونَ} من البعث والحساب والثواب والعقاب {لآتٍ} خبر {إن} أي لكائن {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين رد لقولهم من مات فقد فات. المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وقوله {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، ويقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه {إِنّي عامل} على مكانتي التي أنا عليها أي اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم وهو أمر تهديد ووعيد، دليله قوله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، وهذا طريق لطيف في الإنذار {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي الكافرون {مكاناتكم} حيث كان: أبو بكر {يَكُونَ} حمزة وعلي. وموضع {منْ} رفع إذا كان بمعنى {أي} وعلق عنه فعل العلم، أو نصب إذا كان بمعنى الذي {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} أي وللأصنام نصيباً فاكتفى بدلالة قوله تعالى: {فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا} {يزعمهم} علي. وكذا ما بعده أي زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة {لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} من إنفاقهم عليها والإجراء على سدنتها. رُوي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منهما لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوا لله زاكياً نامياً رجعوا فجعلوه للأصنام، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها وقالوا: إن الله غني، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وفي قوله {مِمَّا ذَرَأَ} إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه.
ثم ذم صنيعهم بقوله {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} في إيثار آلهتهم على الله وعملهم على ما لم يشرع لهم. وموضع {ما} رفع أي ساء الحكم. حكمهم بأو نصب أي ساء حكماً حكمهم.
{وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين} أي كما زين لهم تجزئة المال زين وأد البنات {قَتْلَ} هو مفعول زين {أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} هو فاعل زين، {زُيِّنَ} بالضم {قَتْلَ} بالرفع {أولادهم} بالنصب {شُرَكَائِهِمْ} بالجر: شامي على إضافة القتل إلى الشركاء أي الشياطين والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول وتقديره: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم بالإغواء {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وليخلطوا عليهم ويشوبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك {وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ} وفيه دليل على أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وما يفترونه من الإفك، أو وافتراءهم لأن ضرر ذلك الافتراء عليهم لا عليك ولا علينا {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ} للأوثان {حِجْرٍ} حرام فعل بمعنى المفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء، والزعم قول بالظن يشوبه الكذب {وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} هي البحائر والسوائب والحوامي {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} حالة الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام {افتراء عَلَيْهِ} هو مفعول له أو حال أي قسموا أنعامهم قسم حجر، وقسم لا يركب، وقسم لا يذكر اسم الله عليها ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وعيد {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث {خَالِصَةٌ} وهو خبر {ما} للحمل على المعنى لأن {ما} في معنى الأجنة، وذكر {وَمُحَرَّمٌ} حملاً على اللفظ أو التاء للمبالغة كنسابة {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} أي وإن يكن ما في بطونها ميتة. {وَأَنْ تَكُنْ مَيْتَةً} أبو بكر أي وإن تكن الأجنة ميتة، {وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً} شامي على {كان} التامة، {يَكُن مَّيْتَةً} مكي لتقدم الفعل. وتذكير الضمير في {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} لأن الميتة اسم لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم {إِنَّهُ حَكِيمٌ} في جزائهم {عَلِيمٌ} باعتقادهم {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم} كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر {قَتَّلُواْ} مكي وشامي {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لاهم {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} من البحائر والسوائب وغيرها {افتراء عَلَى الله} مفعول له {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إلى الصواب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5